السبت، 13 نوفمبر 2010

تكست -العدد الثامن : جدران مائلة كتب د. أسعد الاسدي




جدران مائلة 


  *د أسعد الأسدي

في هدوء واصرار واثقين ، أبدت تلك السيدة ، التي بقيت لشهور عديدة تدور على مشاغل المهندسين المعماريين ، أبدت اعتذارها وهي تتلفظ كلمات الرفض لمخطط الدار الذي أمضيت وقتا ثريا في أعداده لها . كانت واضحة ومحددة في بيان اسباب ذلك الرفض . انها لا ترتضي في اية حال ، كما قالت ، وجود هذا الجدار المائل الذي يمتد بين غرفة الضيوف وفضاء جلوس العائلة . جدار مائل . تسألني في استغراب ، لماذا يميل هذا الجدار ؟

كنت قد جعلته مائلا وهو يمتد الى نهاية غرفة الضيوف ، كي يتواضع حجم الفضاء وهو يلتف حول مائدة الطعام هناك في الخلف ، وتلك لا تحتاج الى فضاء بسعة فضاء الجلوس في مقدمة الغرفة ، كما ان لي مأرب اخرى في ميل الجدار ، اذ اريد له ان يتدخل في الانتباه كي اسكنه شاشة التلفاز ، ويكون الميل بذلك دعوة واضحة للأنشغال بمقتنيات ذلك الجدار . هو ليس عبثا ان يميل .

 كنت اخالف تلك السيدة الرأي ، اذ لم يكن لوجود ذلك الميل في الجدار مايثير في داخلي مشاعر سلبية . غير اني قبلت اعتذارها ، الذي جنبني على اية حال ، حنقا لايكف عن لومي حد الساعة ، لسيدة اخرى عجوز تلطف زوجها يوما وقبل تشييد منزله الذي اسكنته جدارا مائلا هو الاخر ، يمتد هناك بين غرفة العائلة وفضاء المطبخ . كنت انوي ان ادني هذا الجدار من الرؤية ،  وازيده حضورا ، وقد  حملته دواليب مفتوحة لخزن اشياء عديدة ، يصبح تناولها من قبل سيدة المنزل ، اذ يميل الجدار ، اكثر يسرا وهي تعد الطعام  وتبحث في لهفة متبرمة عن  تلك الاشياء ، غير ان العجوز مازالت تشتم ذلك الجدار المائل ، كما لو انه  يدوس اطراف ردائها في عناد وتواصل يثيران  فزعها .





وفي بيتي الان جدار مائل ، اعبر بمحاذاته من فضاء المطبخ جوار مساحة السلم الى فضاء الجلوس ، وهو يميل  و يتسع لنافذة تستحيل مرصدا يرقب الفضاء الحدائقي المفتوح ، الذي يحاذي الجدار ويسكن مربعا وسط الدار،  واذ اعبر لصق الجدار المائل ،  يذهب بصري متلذذا بألوان الزهور ، ونقاء خضرة اوراق الكينوكاربس المتعالية في ثبات . لم نهجو يوما حضور هذا الجدار المائل في بيتنا . ما بال تلك العجوز .

الجدران لا تميل في وضع افقيتها وحسب ، بل هي قد تميل في وضع عموديتها ايضا ، كما في مبنى القسم المعماري ، الذي جعلت جداره الامامي  يميل في عموديته  الى امام ، مرتفعا لطابقين ، تحفره فوهات ضيقة وطويلة تقف في وضع تراص ، تأتي بضوء النهار متلطفا الى فضاء المرسم في الداخل ، حيث تستعيد اعمدة الجدار شاقوليتها وهي تحاذي الجدار الامامي المائل . جدار كبير متعال ٍ ومائل ، ينقسم جدارين يحيطان بفضاء الدخول الواسع ، ويميلان في الفضاء المفتوح الى امام ، في دعوة واضحة لدخول القادمين ، ومباهاة جدران الابنية القريبة الشاقولية ، الواقفة دون ان نشعر منذ سنين .

في مبنى اداري جديد ، اقترحت ان يتكون من كتل بنائية ثلاث  ، تميل في وضع افقيتها ، وهي تتلاقى وتتقاطع بزوايا ميل متفاوتة وغير متوقعة . كنت اريد للمبنى ان يبدو في وضع حركة ، كما لو كانت كتله العديدة قد غادرت وضعا مستقرا اولا ، وهي تتجه الان في حركيتها نحو وضع مستقر اخر . غير انها وحال علاقات تقاطعها بزوايا ميل غير مألوفة ، تعلن نزوعا للدوران ، وتكشف عن قلق وغياب ثبات ، يناقض حال استقرار يعد به ثقل جدرانها وضخامة حجوم كتلها . الابنية اليوم  تغادر ثباتها واستقرارها الى تيه الدوران والحركة ، التي لا تعد بالوقوف من جديد . العالم كله يدور ويدور ، لماذا تبقى الابنية لوحدها واقفة ؟


الكتل الثلاثة ذاتها ، اوقفتها في مبنى اخر ، وهي تتلاقى وتتقاطع عموديا ، اذ تميل عن شاقوليتها بزوايا انحراف مختلفة وغير متوقعة ايضا . تقودني الفكرة ذاتها ، اشياء العالم تتحرك وتدور،  تظهر امامك وتختفي ، تلتف حول بعضها ، فيظهر منها ما يظهر ويختفي ما يختفي ، وتتبادل الاشياء والاشكال اشغال المشهد . يأتي بعضها الى الحضور في حال ، ويختفي حال حضور ما هو اخر . لماذا لا تفقد  الابنية ايضا  هدوءها  وثبات مشهدها ، وتأذن ان يمسها الرقص .

يمتد الجدار حتى يقاطع اخر في علاقة تعامد واضحة ومحددة ، وقد يميل الجدار عن وضعه الافقي او العمودي المعهود ، ويكشف بذلك عن وضوح نية في النزوع الى حال اخر . الميل هو انحياز وحدث مشهود ، يلاقي الحس فيزيد في الاشياء الحضور . وهو انحراف عما هو متوقع بوضوح نحو احتمالات غموض ما هو ممكن . والميل حال حركة ينبىء عن حدوثها ويعد بتواصلها ، حيث تغادر الجدران ثباتها نحو تيه ما يأتي به الدوران .

الجدار وهو يميل عن شاقوليته يستحيل ثقيلا لا نأمن محاذاته ، وتغطس فيه اوزانا معلقة الى الهواء تشده الى الارض  ، وهي التي كانت تنفذ عبر شاقوليته في هدوء ، غير انه يقف مائلا و يتوانى عن السقوط  ، اذ ان العمارة التي تبدأ في وقوف الجدار ، تتأكد حين يميل معاندا قلق السقوط  ، غير انها تضمحل وهو يغادر عموديته ويواصل ميله حتى يلتصق بالافق .

هل في وقوف الاشياء مائلة  سخرية ما  ؟  وهل تسخر الجدران المائلة الشجاعة ، من جدية وانضباط الجدران الشاقولية المهذبة ؟ وقد تواصل تلك الجدران المائلة سخريتها وضحكاتها المستهترة ، حتى السقوط نحو الافقية . بعض الاشياء وهي تميل ، تميل احيانا في صواب ، كاشفة عن نية الميل ومعاندة توقع الأستقامة  .  وقد تميل تلك الاشياء احيانا أذ تميل ، في خطأ ، معلنة غياب الأستقامة  ومفتقدة الى قصدية الأنحراف ، الذي يقيم يقظة الذهن ويديم حيوية الحس .

في القيلولة ، يمد جسده المتعب على سرير مزدوج ، يتسع لحضور شريكته في المساء ، غير انه في الظهيرة يحتل كامل المكان ، وينام مائلا ، كي يشغل السرير على سعته ، فلا يعود شاعرا بوجود مكان يتسع لغائب ، فهو لا يريد ان يفتقد شريكته ساعة تغيب .  في الاستلقاء على السرير مائلا  ، زيادة في مكانية الحضور وهيمنة على غياب الاخر . وهو ليس محض سعة في الحضور وتمدد في المكان ، بل هو ايضا اقتناص أفق ارحب من الحرية والسعة ، تلك التي تتيح امكانية النوم مائلا . المكان عريض ، وتجده وهو ينام يدور فيه و يدور ،  من وضع ميل الى اخر ، دون ان يلاقيه في التيه ، جسد اخر .


    *أكاديمي عراقي




ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق