الأحد، 14 نوفمبر 2010

تكست -العدد الثامن : العمـــــارة رفيقــــــــة درب - نص للشاعر عــــادل مـــردان



      العِمارة رفيقة ُدرب


      *عادل مردان



يتأمل الرضيع وجه الأم , والسقف العالي للبناء القديم , ويركّز طويلا ً على جدار ٍ شاخص وملغـّز , يوجد خلفه العالم .. إذ يكثـّفه اللون الأبيض , أمام براءة العينين . بعد مغادرة المهد يُسنـَد الطفل بنمارق من ريش , فتضج في رأسه الأسئلة . تنمو الأصوات الخافتة , ويبدأ بالضحك الأعتباطي ، لأن الذبذبات تدغدغ طبلة الأذن ... كذلك يتساوق البكاء , وكأن الوحوش تئن خلف غرفته البيضاء . بهذا الفضول البصري , تُكتشف العمارة تدريجيا ً- حيث يلحُ إستطلاع العين , لمعرفة مكونات البيت , مع تعلـّم الألفاظ المتناغمة , فأستطلاع الجدران درس النفس الأول , بعدها يخف الأرتباك , من مسافة الفراغ الى السقف .



أتذكّر في ( الشعيبة ) , المحطة ما قبل الأخيرة , التي يقطعها القطار جنوبا ً , الى محطة (المعقل ) , ذلك الليل الجاثم بكائناته , خلف الجدار الملاصق للسرير . أنام قرب أمي , بينما يأتي الزئير , من قلاع كثيرة التعقيد , ولا ينقطع إلا عند سماعي صوت ( الماكنة البخارية ) , تدخل المحطة , وهي تجر قطار (الأحمال) ببطء .
بدأت أكبر , وأنا أراقب العربات الرجراجة , تمازج بمشهدها الأثير مشاعري المتناقضة .



عندها توضّحت لي ألغاز البيت – حوش سقفه السماء , وثلاث غرف جاثمة بأستقامة , أعلاها سقيفة عرضها متران ... ينتهي الممر بمطبخ صغير , يلاصقه حمام واسع , الأول مشغل أمي الدائم , تقشّر , تقطـّع , وتعجن , والثاني حددت أرضيته , بسور منخفض أشبه بحوض ... أغلق الفتحة , وأملؤه بالماء , لنطرطش أنا وأخي – ذلك الولع القديم , بلاغة حنين الى النهر . في بيوت (السكك) , ذات الطراز الأنكليزي , يُبنى وعاء كبير من الكونكريت , لغرض الأستحمام , حيث الفتحة خارج التكوين , كافية لأدخال ( البريمز) .أما في الأخير المخادد , فسحب سلسلة ( السيفون ) , متعة تسحر الأطفال ... كانت الغرفة الوسطى مربّعة , مثل كائن يقدم وظائفه المعمارية. في شتاءٍ قارس , كنا نتكدس في جوفها الدافيء , إذ تخط الرعود , في ذاكرة الفتى موسيقى الخوف – وسط الجدار (رازونة) , كم أشرَفت عليها , وأنا أتوازن على الكرسي , لأخبيء سيكارة (كريفن أبو البزون) , لذتها مازالت في فمي . الأولى دَخنتها في نهاية الدرج , الذي يصر مستعذباً بلحنه . عندها يطل أبي , بقامته على مشهد التجويف , عاثراً على سيكارتي المفضّلة .  السطح تكوين مدهش , عند صباح صيفي , تحط حمامة عيني على (المحجّر) , وتفعل أناقة الطابوق , فعل المعشوق بالعاشق . كانت بناية المحطة , ذات الطابق الواحد , تلتصق بالبيت – حيث تفتح الغرفة الأولى , الى ممر المحطة , ذي الغرف الأربع . الأبواب بظلفة واحدة , والباب ذو ظلفتين , عايشته في مكان آخر ... لا تغيب عن ذاكرتي (ثلاجة الخشب) المبطـّن أعلاها( بالفافون) , حين ألتقط تفاحة من أسفل .



أجلس هنا قرب نافذة (العربة السياحية) , بعد ثلاثين سنة , لأشاهد بيتنا , الملاصق , الذي تأملته طويلاً , عند عودتي من المدرسة , كأنه عملاق أخرس , يتربع على الأرض , فإذا البناية تشملها نظرة خاطفة . صار البيت متواضعاً والأبنية التي إضطجعنا في ظلالها , إنكمشت على نفسها , تلك هي تحفيزات أولى , للكتابة عن العِمارة .. عمارة تعيش مع الانسان , فلنا جميعاً تعالق لا شعوري مع كائناتها الصامتة .



ما يُغني فكر العِمارة في المشرق , مجاورة الصحراء والنهر . في بلادنا صُممّت المدن السومرية , على شكل رقعة شطرنج , وهذه حال مدننا الآن . يكتب مؤرخ غابر : (العمران ينتج المدينة) , فالحروب تخرّب ما يُبنى بمشقـّة .. هنا زقاق يلتف على نفسه , لا تخرج من شَرَكه , إلا بالتعوّد والخبرة , تتعرج كالأفعى , وصولاً إلى سكن خفيض . أكثر الأحيان تنتهي (الدربونة) ببيت , لتعود أدراجك الى شارع (الشناشيل) , وقد شحبت واجهاته المزخرفة ... (الدربونة) ضيقة , حيث تتقابل أبوابها ,على بعد متر , وهي مرصوفة أحياناً
بالقاشاني .



الخمرة تزيد العمارة بهاءً . أحب السقف القرميدي , وبيت الطابق الواحد , ويسحرني الموقد الذي نسيت ذكره , في الغرفة الوسطى , حيث حكايات جدتي , تنساب مع الروح ...  يزيدني تأمّلا ً سياج الحديقة الخشبي , محددا ً صورة البيت ... (الأشجار صغيرة لا تلغي إستراحة الفضاء – يمكن زراعة ليمونة , عند كل زاوية في العمق) أما البيوت العملاقة ,   المطهمة بالزجاج والساج والزخارف, فإن حضورها الفقير, ينعكس على فضاءات الداخل,
إذ يشرد النظر , مِن إسراف التخارج .




إنطبع مبنى (المحطة العالمية) , في وجداني لكثرة تسفاري بالقطار . كنت أتفحص ثيمات المبنى الفضائية , بأندهاشة الثَمل , فتحاورني سرودها باللاوعي , قلت لنفسي حينها :  ما فضائل العِمارة في الشعر . أجيب متمتما ً قرب نافذة التذاكر الخضراء ,: الإنشغالات الأولى تتحفز بلا وعي , (البيت - الجدار – النافذة – الباب – السطح - السلّم - الممر- الزقاق ... إلخ)    يتعزّز توقي الى الموسيقى , إذ تترك نسقا ً سمفونيا ً, في معمار القصيدة الخاص . ما زلت أتأمل , مجاورة العمارة للموسيقى , مجاورة الجلال للروح . يقول معماري ذائع الصيت : للبناية أساليب مبهمة , كي تعيش مع الأوركسترا , عندما يواجه , الفضاء الداخلي صعوبات نفسية للتفاعل مع الإيقاعات , وبعد جهد جهيد تنسجم معها , فبناية موسيقى  (بتهوفن) , غيرها لمجدد الأوبرا ( فاكنر) , غيرها  لساحر الباليه (سترافنسكي) ...    مزايا شيّقة للعِمارة , وهي تعيش معنا , دون أن  نتنبه .  ينسجم فن الحضارة هذا , مع خاصية فريدة في الشعر , تمعّن فيها (باشيلار) عميقا ً ,  وهي لفتة معمارية منه , تركّز على ( الكبير والصغير) , لحجوم الأشياء عِند الشعراء ,  فمنهم مَن يكبّر أشياءه ومنهم مَن يصـغـّرها , ومرجع هذا- الأنطباع الطفولي في   أرواحهم ... يتركز الحس البدائي للعمارة الطبيعة بالجبال , وكل ما يتعلق بالصخر ,   فللأحجار تناغم شكلي , يعطي الأصول الفطرية لذلك ... وأنا في السيارة , بينما نقترب من مدينة (العمارة) , تشغل الناظر كائنات ممشوقة , من الطابوق تُدعى(الكورات) , بينما يرطن مجاوري , كنت منسجما ً مع (كورة) , تنفث دخانها الأسود في الأفق .  نوعية المواد سبب فعّال , لصفات الجسد المجبولة بكيمياء العناصر , فالأسمنت غير الطين, والطابوق غير الحصى , والكراسي المصنوعة من ألمنيوم , تختلف بالوظيفة عن مثيلاتها , من حديد أو خشب , فهي تشابه أجسادنا , بالمجالات الثلاثة (حرارة- كهرباء- مغناطيس) . في أجنحة الطائرات مثال شائق , إذ تصنع من سبيكة (الديور ألومين) , المانحة صفات مرغوبة (الصلادة والخِفة) . في شعرية العمارة ضمانة , للأحاطة بعوالم فن التشييد , الذي يخاطب البشر , بلغة بَصريّة  واحدة , فروحها تقاوم الزمن , لقد كَتَبتها لغة الرياضيات , التي حافظت على ماء وجهها  (ميشيل فوكو) . المسجد بعمارته , المصرف المحروق مع تخطيطات الرسام , المحفورة على الخشب , وتلك مشاهد من المدينة ... يسعل باص (الآباتشي) , في شوارع مهملة , لا تنسجم (الشفرليت) مع وحدات الكونكريت ,  التي تكبّل النهر(ذوق التصنيع العسكري) ...  الفكر الظلامي يخلق عِمارة فاشيّة , والمستنير يخلقها شفـّافة , تتروحن مع الناس .  قفزة إلى الفضاء الداخلي , (البيتونة) حارسة البيت , و(البادكير) يذكّرنا بحكايات الصحراء ... السجادة والثريّات والنمارق – غرفة(السرداب) والنوافذ المشبّكة والكوّات,
التي تسمح للهواء , والضوء بالنفاذ , الكراسي والدواليب(فلسفة الأثاث) , الأرائك والشمعدانات , إكسسوارات تلائم فكر العِمارة .



عمارة تظلـّل الشوارع , عند طابقها الأول قاعة الرسم , تُعلـّق اللوحات على الجدران , لتبدأ حكاية التجاور . أنظر من نافذة الفندق , المقابل إلى الحديقة , حيث تتوزع التماثيل مثل أبناء , يستظلون بفيء أمهم , الساحرة سيدة الطوابق .
العِمارة في الرواية , (كيف نسيت) – يعبر من هنا السيد( بلوم) في (عوليس) , أصبح العبور إحتفالا ً , ذكرى لرواية معمارية حديثة , أو في (1984) الأخ الأكبر , عندما يُخرج البطل طابوقة من الجدار , هناك يخبّيء دفتر مذكراته , من عيون لا ترحم , كذلك تتداخل الأمكنة عند رواية (جن) .


الألوان تُعطي تأثيرها نوعا ً ودرجة , عندما صَبغتُ بعض الاُصص , لاحظتُ تأثير اللون الترابي . أيضا ً في الأجسام العملاقة , فناطحات السحاب البيض  , والسود  , والحمر ,  تُعطي مشاعر مختلفة ... في مدينتنا المُحزنة , التي لا تطاق , تحيا عقول معمارية , ستضع تصاميم المدينة المُتخَيلة . تمنيت أن أسألك صديقي المعمار , يُخيّل لي إن بعض الأغاني , تمتص من أضرع , حقل العمارة الباذخ , ما تستطيع , لتنفرد (بميلودية)  مؤثـّرة , حصرا ً, (الغناء الأوبرالي) . كذلك أسألك , لماذا أأول فضاء(الكعكة الفرنسية) لشعر المرأة , إلى عمارة بسيطة للمتن الدائري , يطعّمها النحت بالضفيرة .



(كعكة عيد الميلاد , عِمارة لذيذة , تنحني لسكين إبنتي البيضاء ) ... في الحمّام نزاول أبسط عادات العِمارة , (تأخذ الحجر الأسود بيد , وتجلّف باطن القدم) .




السوق يشبه البازار , ينحرف المتجوّل مع طقس العمارة , الذي يوجهه الخشب , والسقف
الكبير يظلل الملابس المعلّقة . (سوق المغايز) نكهة معمارية موحية . أما (سوق العطارة),
فتمنح فضاءاته الرضا والسكينة , لعباءات تَمد الأيادي إلى دكاكين , إحتشدت على رفوفها,
مباهج الصيدلة الشعبية .  بناية السينما في الصيف , إيحاء يختلف عن بناية الشتاء , كذلك عِمارة السجون , الأكثر تحسسا ًبسيكولوجية النزلاء - خاصة الثقيلة- تآزرت العمارة معنا أيام المحن , فأصابها ما أصابنا ... أركض في الحلم , يرسم الكابوس (عمارة النائم) , مختصرات من الضيق – دهاليز – واجهات حرجة . بعد ثلاثة أشهر من الحرب الثالثة , تغيّر الفضاء للناظر من الطائرة , لأن الصحون (الدشّات) ملأت السطوح .




النص الديني تصوّر فجائعي لعمارة القبر . في صحن العمارة الأسلامية أتدلّى , مستذكرا  أولى تفكراتنا العمرانية (الزقّورة) , التي فخرت عادات وطبائع الإنسان , في بلاد الرافدين  ثم أغرق في الرسم التخيلي (لبرج بابل) , حيث كثافة الرموز المعبّرة عن حضارة نائمة ...   النحت الآشوري , والقصر المنيف لملك إله , إذ يقف ثوران مجنّحان أمامه . بجلال , ثم أعود إلى ذلك الصحن , مدقـّقا بالقباب والمخروطات , مثمـّنا الذائقة التي تجعل , من محراب (الخاصكي) سيد المحاريب .  بتعاقب الزمن , تمنح الأرواح المتواترة , الكثير لجسد العمارة , فالبيوت العتيقة تنفث  المعاني بروحية , لتجعلها حبيبة ومؤنسة ... ويعطي بيت الطين من الأنساق التأملية , أكثر مما يعطيه بيت الطابوق . أما في (الكوخ) , حيث يكون السرد  , من مخيّـلة القصب , تتناغم أعراس الكينونة مع الوجود .




  *شاعر عراقي 



   

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق