الأحد، 14 نوفمبر 2010

تكست -العدد الثامن : حكمـــــة الشــــــــاعـر - كتب د. حسين سرمك حســـن





حكمة الشاعر
  
د.حسين سرمك حسن


لعل من أروع النماذج التطبيقية التي يقدمها صقر عليشي لتحديد الخط الفاصل، وهو دقيق جدا وفق عقلية الأصوليين ، بين تفجرات الخطاب الشعري، وتصنيمات أحكام الخطاب الديني هي قصيدة (آخر ما قاله لقمان الحكيم). وينبغي أولا أن نتفق مع اطروحة المفكر والمبدع الكبير (أدونيس) حول الفارق الجذري بين الرؤيا الدينية والرؤيا الشعرية حيث يقول:  (الشعر يعارض جميع الأزمنة ، وبخاصة الزمن الديني، من حيث أنه لا يواكبها بقدر ما يخترقها لكي يخلق زمنه الخاص . الشعر بتعبير آخر يُخرج الزمن من إيقاعه الخطّي الخيطي، إلى إيقاع كوني عمودي.



إن علاقة اللغة بالشيء ، دينيا، علاقة ثابتة، أما علاقة اللغة بالشيء، شعريا، فهي علاقة متغيرة. ينتج عن ذلك أن المعرفة بالدين تتناقض كليا وجوهريا مع المعرفة بالشعر- أدونيس ، محاضرات الإسكندرية). وقد ترسخ في ذاكرتنا ووجداننا أن لقمان هو رمز للحكمة واستنباط الدروس من ظواهر السلوك والحياة. وصاياه تهدف إلى تحقيق التعاضد الإجتماعي ، والوحدة الأسرية، وإشاعة قيم الصدق والوفاء والعدل. وهذا قائم في آي القرآن الكريم وفي الشروحات الدينية التقليدية الكثيرة. لكن بالنسبة للنفس البشرية ، وافضل دارسيها وأكثرهم معرفة باسرارها هو الشاعر، تصل مرحلة ، على مستوى اللاشعور، وعلى مستوى الرغبات والغرائز إلى حالة من الرغبة في الصراخ حين يعم هدوء رتيب موحش.. ومن الإنفلات في التصرّف عندما يكون الإيقاع السلوكي ثقيلا معادا مكرورا. ويشير "الوردي" إلى أن (أرسطو) قد أخطأ حين اعتبر ( الإنسان مدني بالطبع ) لأن الإنسان – حسب الوردي – ( وحشي بالطبع ، ومدني بالتطبع ) . ويقدم ملاحظة مهمة تشير إلى أن مفكرا واحدا من بين المفكرين القدماء استطاع أن يشذ عن دراسة المجتمعات الطوبائية المتعالية ويتجه إلى دراسة الواقع الفعلي وهو ابن خلدون الذي اعتبر التنازع مصدر تطور المجتمع حين قال في " مقدمته "  : ( إن التنازع عنصر أساسي من عناصر الطبيعة البشرية . فكل إنسان يحب الرئاسة وهو لا يتردد عن التنازع والتنافس في سبيلها إذا وجد في نفسه القدرة على ذلك ) وهذا الرأي أصبح محورا لكثير من نظريات علم الاجتماع الحديثة . فالتنازع والتعاون هما دعامتا الاجتماع البشري ، فهما يخلقان ما يصطلح عليه الوردي بـ "التدافع الاجتماعي" الذي إذا خلا منه أي مجتمع فإن مصيره سيكون الركود والانحطاط ، في حين يشكل وجوده حافزا للإنسان نحو العمل المثمر والإبداع . ويضرب الوردي مثلا على ذلك بالمجتمع الهاديء الذي حاولت تشكيله مجموعة من الطوبائيين في أمريكا ، لتكون مجتمعا هادئا وبعيدا عن تكالب الحياة وشرورها ونوازعها، وانضم إليه الفيلسوف ( وليم جيمس ) الذي تركه بعد بضعة أيام قائلا : أنا سعيد حين أخرج إلى عالم فيه شيء من الشر . لقد أصبحت أشتهي أن أسمع طلقة مسدس أو ألمح لمعان خنجر أو أنظر إلى وجه شيطان!!.ويعلق الوردي بالقول: ويبدو أن المثل الشائع الذي يقول أن جنة بلا ناس ما تنداس ليس دقيقا تماما ، فالصحيح هو أن جنة خير مطلق بلا شرّ لا تُطاق، فالطبيعة البشرية لا تستسيغ "السُرُر المتقابلة" والسعادة الرتيبة وتشتهي التنازع. يقول صقر:



( لا يتردد أن ينزع ثوب أخيه
واثواب الجيران
من كان له ثوبان
هذا توقيعي:
لقمان  ) (الأعمال الكاملة، قصيدة: آخر ما قاله لقمان الحكيم، ص439)



يبدو الإصرار صادما حين يوقع لقمان الجديد تحت وصيته الأولى.. وهي وصية وحشية إذا ساغ الوصف.. وصية تشيع الخراب والصراع والتعدّي بين البشر.. كما أنها تكشف الروح التملكية الساحقة التي لا تقف عند حدّ.. ففي حين تدعو كل الديانات السماوية والأرضية إلى أن تقتسم الرغيف الواحد مع أخيك ( ولا أعلم كيف نقتسم الثوب الواحد مع أخينا في الإنسانية ؟!! مو نتصلخ اثنينه !!) كتعبير عن التكافل والتراحم وعون الإنسان لأخيه الإنسان .. وهو في الواقع موقف يضفي على الإنسان سمات المحبة والتضحية والتعاطف الدافيء والنزوع نحو الصلات المسالمة وتفضيل الآخر على الذات.. وهو في الحقيقة مقلوب ضدي لما هو في الواقع وفي البنية النفسية العميقة التي تلوب فيها غرائز العدوان.. فالإنسان هو الوحيد الذي يقتل أبناء جنسه ، وبالملايين.. ولم نسمع بحرب عالمية ثانية بين الاسود قتل فيها (30) مليون أسد !!. صقر – في هذه النزوة الشعرية- يدعو الإنسان إلى أن لا يقنع أبدا.. وأن يمدّ بصره ومخالبه إلى ما يمتلكه جاره.. وإذا كان لدينا ثوبان فلنكمل الأمر وننتزع أثواب أخوتنا وجيراننا. لكن ما نعرفه هو أن لقمان الحكيم لم يقدّم لابنه أو لغيره أي موعظة من هذا النوع.. ثم أن لقمان حكيم وليس شاعرا.. أما صقر عليشي فلم نسمع بحكيم في القرآن أو في التاريخ يحمل مثل هذا الإسم.. وهو شاعر وليس حكيما كما يوصف في الصحف والمهرجانات .. لم يقدمه أحد على المنصة قائلا: الآن مع قصيدة لصقر الحكيم. صقر ليس رجل دين وهذا هو الفارق الحاسم.. لنستمر في الإستماع لـ "أوامره":











(كن أرضا واطئة
تشرب كل مياه جواركْ
كن عشبا
ستُداس
وإذا ما كنت حذاء
تخرس أفواه الناس ) (ص 439و440)


ودائما، وفي هذا العالم الجائر، وحين تتصارع الفيلة في غابة الحياة لا يتاثر سوى العشب.. في مشروعه الشعري يحتل العشب موقعا بارزا .. فهو ابن الأعشاب الرقيقة .. وتعاليم الأعشاب هي ركيزة مركزية من ركائز تربيته الجمالية :



(في ظلّ الأخلاق العالية لشجر الحور
تربينا
وحفظنا كلّ وصايا الصفصاف
وكلّ تعاليم الأعشاب ) (الأعمال الكاملة، قصيدة تربية جمالية، ص327)



وشاعر مثل صقر يتربى مع العشب كتفا لكتف ووجودا لوجود :



( ها هي الأشياء تَغنى
في ظلالكْ
ها أنا والعشبُ ننمو
في جوارك ) (الأعمال ، قصيدة سماء خاصةن ص172)



يدرك قيمة هذا المكون الهش في حياته خصوصا وفي الحياة عموما.. يدرك معنى أن تسحق عشب الإنسان لا أحذية الطغاة الثقيلة حسب ، بل أقدام أخيه الإنسان المسحوق الذي جعله الإنذلال والمهانة ينذهل عن مواضع الجمال فيدوسها وهو في دوامة صراعه من أجل البقاء الحيواني .. وفي ظل معادلة اجتماعية مختلة يعود فيها إلى الصدارة السلوكية في المجتمع مبدأ الغاب القديم: البقاء للأقوى، يكون من المشروع أن يعلن صقر قناعته المرّة هذه.


(من يشرب من بئرٍ
فليبصق فيها
من مرّ على الأشجار تدلّت
ثمراً
فليأكل حتى التخمة
من ثمّ .. ليجعل سافلها
عاليها ..) (ص 440) 



إنها النقمة الجارفة التي لا تبقي ولا تذر.. في مثل حالات الإختلال الاجتماعي الخطيرة هذه يمكن لرجل الدين أن يوجه مواعظ التراحم والتكافل.. لكن الشاعر الفرد ليس رجل دين.. هو إنسان توفّرت لديه القدرة على أن يصرخ من خلال اللغة.. من خلال اللعب على أوتارها .. هذا اللعب الذي سيقط هيبة رجل الدين وهيبة مواعظه وتأثيرها في نفوس المصلين الذين يتوعدهم لو لجأ إليه.. وصحيح ، لماذا يتوعد شيخ الجامع في خطبته المصلّين الذين يركعون امامه لله.. ولا يطرح خطابه للآثمين الخطّائين وهم خارج المسجد بطبيعة الحال؟ سيقولون أنه يخاطب المصلين ومقصده الآثمون.. وهذه حالة تأويلية "شعرية".. والشاعر ذو مشروع فردي.. ونداؤه ذاتي يصخب في أعماق ذاته ولا صلة له بأي "آخر" لحظة الخلق.. في النشوء الجنيني يكمن الخطاب الشعري في "رحم" الشاعر.. وحين يطرحه يصبح مشروعا متداولا بين المتلقين.. لكنه يبقى نداء الذات الممزقة.. المحاصرة المستغيثة.. تطلق نداءاتها الجريحة لا لإله ولا لعقيدة ولا لجموع يلقنها دينا جديدا .. ديانته شعريّة يقول فيها ما لا يفعل.. ولو كان يقول ما يفعل لانقلب عالي الحياة سافلها.. لا يوجد لديه مسجد يعلّم فيه المريدين أن من يشرب من بئر فليبصق فيها ويرمي فيها حجرا.. ولا يلقنهم أن من أكل من ثمار الأشجار فليُتخم ثم يقلب سافلها عاليها.. إنه فقط يطلق النداءات الشعرية ، نداءاته المنجرحة ، وهي ذاتية أولا ، ولغتها خاصة ثانيا. إن عالمه لغوي فريد لا صلة له على الإطلاق بالعالم المادي القائم سوى أنه يعيش فيه ويستقي "مواده" الأولية منه .. والأهم أن ندرك وبقوة الفارق بين الذاتين: ذات رجل الدين أو المتدين التقليدي عموما، وذات الشاعر.. فالأولى مستكينة مستقرة ومذعنة .. في حين أن الثانية قلقة مستثارة ومنفعلة.. وما تنتجه الذات في حالة قلقها وانفعالها بما يطعنها ويهددها يختلف جذريا بل يناقض ما تسلكه الذات الأولى من إنسحاب وخشية – والخشية غير القلق – وتبريرات مهادنة. ووفق هذه المعطيات الشعرية نفسها يمكننا أن ننظر إلى ما قاله الشاعر في قصيدته "في فضاء الطفولة" ، معطيات شعرية لغوية :



(أضعنا مرارا خراف الزمن
وعدنا إلى أهلنا نادمين
جمعنا الكثير من البيض
منتظرين مجيء حسن (بائع جوّال كان يُعرف باسم حسن البياع )
ومن بعدُ يذكر ذاك الحسن ؟
وحماراه من تحت حمليهما يرزحان
يجيء ، ويرفع من عند أول بيت
نداءً
يلعلع مثل الأذان :
حيّ على "راحةٍ"
حيّ على إبر وأساور
حيّ على لذة في السكاكر
حيّ على خير حنّاء
              للصبايا الحسان
حيّ على ....
وحماراه من بعده يكملان ) (الأعمال الكاملة ، قصيدة "في فضاء الطفولة" ، ص338و339).




حاشية :
----------
ومع كل الاستقلالية الشعرية التي تنأى بالشاعر عن تأثيرات ما هو ديني ، وسعيه الثوري لتأسيس مشروعه القائم على رؤاه الفردية ، فإن ما غرسته التربية الدينية والاجتماعية في لاشعوره قد تفعل فعلها في كثير من الأحوال وتشغّل وخز الإبرة النفسية الداخلية كما يسمّي صقر الضمير في قصيدته "قالت الإبرة" التي تسلمناها منه مخطوطة وستكون لنا وقفة مفصلة معها لاحقا ، هذا الوخز قد يدفع بالشاعر إلى مراجعات مربكة ومشوشة لا تتبين بصيرته العامل الحقيقي فيها. على سبيل المثال نشر صقر قصيدته " رسالة غلى الوالد" أول مرة في مجموعته الشعرية "أعالي الحنين" التي اصدرها عام 2001، وجاءت فيها الأبيات التالية:



( فلا يحزننّك ما ثرثر الأغبياءُ
وماذا تُجيد الحمير سوى حمل اسفارها
وهذا النهيق الغبي ؟ )



ولكنه حين أصدر أعماله الشعرية الكاملة في عام 2008 رفع الأبيات السابقة من تلك القصيدة، وعندما سألته عن السبب قال إنه يريد أن يخفف من غلوائه واندفاعة روحه الشعرية في التعامل الصادم مع النص الديني .. وحين نقرأ هذه الأبيات فسنجد أنها الأبيات الوحيدة التي يقرّ فيها صقر وصفا ورد في القرآن الكريم ولا يقلبه على "بطانته".. قال تعالى في الآية الخامسة من "سورة الجمعة" :


 ( مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ )



ولم يقل صقر اكثر من هذا ، بل ايّده بقوة مضاعفة!!








    * كاتب عراقي 




ملاحظة: هذه المقالة جزء من مخطوطة كتاب عنوانه "المجدف السعيد" عن الشاعر صقر عليشي سيصدر قريبا عن دار الينابيع في دمشق . 




ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق