السبت، 13 نوفمبر 2010

تكست -العدد الثامن: فاعلية الشكل في القصة - السيناريو - كتب كامل فرعون



فاعلية الشكل في القصة *

السيناريو



إن الأدب لا يقبل التفرقة بين الأنواع ويرمي إلى تحطيم الحدود
موريس بلانشو
                                                                                                                                                                                     *كامل كــامـــل فرعون


  إن ظهور السيناريو لم يقطع الصلة بين السينما والحقول المجاورة لها كالرواية والمسرح، مع انها حققت بولادته تكاملاً في عناصرها الإبداعية، وذلك من أجل سينما خالصة، إلا ان هذا الأمر لا يمكن التسليم به، نظراً لطبيعة الفن السينمائي بوصفه شكلاً مفتوحاً قابلاً لتوظيف كل جديد يسهم في تطوير فاعلية مكوناته، ويمنح اللغة السينمائية مقدرة كبيرة في التعبير، ولأنها في مكونها الأساس (صورة متحركة)[1] حاولت استثمار إحدى خصائص العين البشرية في احتفاظها ( بالصور على الشبكية للحظة عقب اختفاء هذه الصور)[2] مما يجعل المشاهد يتوهم بأنه يرى حدثاً مستمراً بلا انقطاع[3] محققة عبر هذا الاكتشاف تطوراً كبيراً في النظر إلى مفهوم الصورة انطلاقاً من الوضع الاستاتيكي للمستوى الفوتوغرافي لها، لتشكل عبر تغييرها (ذلك الأثر الكلي لأي مادة مصوّرة ، ومشتملة على تجليات فنية ورمزية)[4] إضافة إلى ذلك، فانتقال عناصر النص المسرحي للشريط المصور أعطى أفقاً جديداً من الحركة، لوجودها في سياق مغاير، يتطلب علاقات مغايرة، فالمسرح فن مكاني تتحدد عناصره بأداء وظيفة ثابتة، وبفعل الحوار الذي تقيمه السينما معها، تنحرف تلك العناصر عن دلالاتها، لتحقق برؤياها الجديدة، لغة السينما الفنية المتميزة بخصوصيتها وفرادتها.




  إن التشابه باستخدام العناصر ذاتها، لا يقرر اتفاق أو اختلاف النصين، المكتوب والمرئي، لأن الأمر يرجع للرؤية التي من خلالها تتعين طريقة السرد، أي الكيفية التي تروى بها الأحداث، بما يختص به كل حقل من وسائل، فالفيلم ( الذي يعرض قصة على طريقة المسرحية الأصلية سيكون على الأرجح مجرد صورة فوتوغرافية للمسرحية)[5] وهو ما يتعارض مع مميزات كل شكل فني يهدف إلى تثبيت رؤيته الخاصة، وقد ينطبق هذا التصور على الرواية، فالتناول السينمائي لها لا يلغي كل ما يتعلق بالنص إلا الجوانب التي تستعصي على التحويل بصرياً، فلا يمكن (امتلاك خاصية النثر دون سحره)[6] وهو ما يجب أن تتوخاه السينما في إعداد روايات لها تأثير بالغ على القارئ، بحيث تكون الهيمنة في المرئي للنثر، الأمر الذي ترفضه السينما من (أجل الوصول إلى جماليات متوازنة، متحررة من مركزية الكلمة، ومحورية الأدب)[7] ساعية لإجراء التعديلات الضرورية لخلق مساحة أكبر من التفاعل بين العناصر المشكلة للفيلم. إذا كان السيناريو (عملية كتابة بالصورة)[8] فهو بلا شك منتوج لفظي يعتمد اللغة المكتوبة في بناء عالمه، لكن هذه السمة لم تمنحه طريقاً للعبور إلى القارئ، لأنه بالأساس كُتب ليصور لا ليقرأ. فقد أفاد من المسرح والقصة في تشكيل عالمه الداخلي، وما أتاحته له وسائل السينما من فرصة مهمة في تطوير إمكانياته الفنية عبر استخدام الكاميرا لانتقاء مفردات المشهد (كمكان تروى فيه القصة)[9] دون التقيد بعدد اللقطات المنتجة بتتابعها للمونتاج أو التوليف السينمائي (وفق شروط معينة للتتابع والزمن)[10] بحيث تتجاوز بترابطها المنطقي عشوائية التجاور إلى مرتبة الإبداع، لتصوغ مقدرة السيناريو على الاختزال وتحييد الراوي والتحكم الدقيق بحركة الأحداث وتطور الشخصية، فقد كان بحق (حلقة مؤثرة في عملية إنتاج الفيلم)



[11] بداية ظهوره
، ليصبح لاحقاً العمود الفقري للشكل السينمائي ، لما له من أهمية في إغناء مقومات السرد المرئي ، إلا ان هذا الاكتمال الفني للسينما لا يقطع علاقتها بما حولها، بل يتوقف ذلك على ما يحققه النص الأدبي من مقدرة على التواصل مع الأنواع الأخرى للإبداع.




  يسعى الشكل القصصي، في انفتاحه على السيناريو للإحاطة بما توفره عناصر الأخير من إمكانية جمالية بترشيق السرد، عبر استثمار طاقة اللقطة في التحديد والتركيز، وهو ما تبحث عنه القصة لمنح مكوناتها مقدرة على الاستجابة والتغيير في بناء وتطوير النص القصصي، كما يؤدي التقطيع، وهو ما يعتمده السيناريو وحدة بنائية مؤثرة، إلى تفتيت الترابط المستمر للأحداث، وتعدد زوايا النظر في المعالجة ورسم الشخصيات، بحيث لا تبدو المقاطع مستقلة في أدائها ووظيفتها، بل متصلة بعملية خلق يهدف لإنتاج دلالة جديدة لم تقتصر فيها فاعلية الانفتاح على اللقطة وما يتبعها، بل تمكنت من كشف قابلية الصوت على تعزيز السرد القصصي في تطوير الشخصية وبناء الحدث.




  ولمعرفة مساحة استثمار النص القصصي للسيناريو، سعى البحث لفحص مجموعة من القصص العراقية التي اختلفت بها سبل التناول لمكوناته الأساسية، ووعي القاص بها، متخذاً من التسلسل التاريخي منهجاً في القراءة، من أجل الكشف عن العمق الحداثي للقصة القصيرة، وبيان معدلات التطور للتقنيات التي أدخلتها في بنيتها، والتأثير الذي أحدثته في علاقات العناصر، وما أنتجه من دلالات على المستوى الإبداعي.


  يكشف القاص محمد خضير منذ بداياته عن رغبة في تقديم نص قصصي مغاير لما هو سائد ومألوف في الساحة الثقافية، فعمل على توظيف عناصر من السيناريو السينمائي لتجديد خطابه القصصي، كخطوة أولى في الاقتراب من شمولية التجربة الإبداعية بتنوعها وخصوبتها، مما مهد لتطوير رؤيته ومنهجه الفني، فهاجس الكتابة يرتبط بما يسكن القاص من قلق مبرر على المستوى الإبداعي ، يترجمه عدم قدرة النص التقليدي في إيصال التجربة بكل عنفها وفتنتها. ولاختبار مدى استعداد القصة على تضييف عناصر أجناس إبداعية أخرى . كما لا يغفل دور المخاض الستيني ، وما رافقه من إشكالات فكرية وثقافية ، ومقترحات تقنية غيّرت بطموحها التجريبي ثبات التنوعات الكتابية ونقلتها إلى مرحلة جديدة في الشعر والقصة على حد سواء، أسهمت بدورها في بلورة هذا النزوع الفني لدى القاص ومحاولاته في تطوير الشكل القصصي.




  ففي قصة (القطارات الليلية) من مجموعته الأولى (المملكة السوداء-1972) هناك توجه واع ٍ لاستيعاب مفردات السيناريو وتوظيفها في بنية السرد، إذ تحظى اللقطة كوحدة مونتاج صغرى[12] باستعمال خاص، لما توفره من حرية في خرق تقليدية الشكل القصصي وتقديم مكوناته وفقاً لجمالية التقطيع السينمائي، وما تحققه للسرد من مقدرة في الاختيار والانتقاء، تكشف عن رؤية محايدة، تحاول الحد من سلطة الراوي وأسلوبه في السرد، فالبناء المقطعي يعطي للسرد تدفقاً جديداً لما يروى، ليس على صعيد اللقطة وما تمنحه من تحديد لمسار المرئي، بل بما يخلقه من اختزال وتركيز وتكثيف في الوصف (مصابيح مضببة تركد في نواقيسها الزجاجية كومات من البق الميت والأوساخ)[13] هذا الاتساق في التجسيد للموصوف تنقله العين الآلية (الكاميرا) بتجريد واضح، خالياً من الترهل أو الزيادة التي تسيء لجمالية الأداء، الذي لا يخلو من تنوع في التمثيل الصوتي، كمؤثر تكمن فاعليته في حركية الوصف أو تطور الحدث أو كشف الجانب السايكولوجي للشخصية، فتعدد أشكاله ينم عن ضرورة إبداعية لا يتأتى تناولها خارج علاقته بالصورة، أو بعناصر العمل الأخرى، فقد يتجلى في الحوار وهو أبسط وسيلة لعرض المعلومات[14] أو الحقائق أو تعيين المكان





 (ما اسم هذه المحطة؟
-          محطة أور
وسأل جندي قرب النافذة
-          كم سيتوقف القطار هنا؟
قال بائع الشاي:
-          نصف ساعة)[15]




وربما تتحدد قيمة المؤثرات الصوتية داخل السرد القصصي بأن (تقول لنا ما لا نراه)[16] لتكسب امتيازاً وظيفياً، تتوقف دلالته على ما يخفى (يهدأ صرير العجلات، وتأتي همهمة أصوات دائرة محصورة)[17] فما يفصح عنه التوظيف الصوتي، يمنح اللقطة قابلية على الحركة، ويكون رابطاً لتعددها، ولأن السينما فن بصري فعلاقته بالزمن لها خاصية مميزة، تختلف في معالجتها له عن القصة، فالراوي لا يسرد إلا حدثاً مضى، قد يعود للخلف، وربما يستشرف المستقبل، في حين (ليس ثمة في فيلم ما، واقع غير واقع الفيلم، ولا زمن غير زمن الفيلم)[18] فهو حاضر حتى في إحالاته المختلفة إلا ان أهم ما يختص به قابلية الجمع بين عدة أحداث تقع في أمكنة متعددة، وفي وقت واحد مما يوسع من مفهوم الزمان القصصي، ويخرجه من إسار محدودية اللقطة والمؤثر الصوتي والحوار، فلا يتعدى الزمن ليلاً لكل أقسام القصة، ليبين مدى استطاعة الإضاءة على أداء عملها. إنه تحدٍ لعلاقة أزلية، لكن ما يفارق في هذا التصور محاولة القاص إعطاء الضوء دوراً مزدوجاً (وتطلع الجندي إلى وجهها الذي غمره الضوء وشطب ملامحه التي تكونت للتو)[19] بالنظر لوظيفته يعتبر هذا التجسيد خرقاً لها، وفحصاً لمقدرته على التطور، يتجاوز دور الكشف والتعرية، وما يتركه من أثر على عناصر المشهد، المفارقة لحالتها الساكنة، لتضيف بحركتها بعداً آخر يصل بها لما هو أعمق من أن تكون مجرد زينة معلقة على الجدار أو مروحة أو مرآة ( انزلقا تحت اللحاف، وعادت المرآة تنضح بالضوء الفائض وتلتقط صور المروحة والأسد الهائج والورقة البيضاء والمهملة على اللحاف)[20].




  يستثمر القاص مجيد جاسم العلي إمكانات السيناريو في وضع نهاية مغايرة لقصته (الحواجز) من مجموعة (فتيات الملح-1973) فالقصة  تسرد حكاية رجل يسعى لصيد  السمك  في منطقة ممنوعة ، على الرغم  من  قراءته اللافتة  المعلقة  إلا انه يستجيب لرغبته في تحقيق ما يريد، ترافق حركته موسيقى يفهم من عدم تناغمها بأنها منذرة له، بحيث تصل إلى حد الصراخ في تطور لاحق. هذا التصعيد الدرامي من خلال الموسيقى، يغتني بالدخول إلى تفكير الشخصية والتوافق بما يحدث في الواقع، وصولاً إلى ذروة ما يمكن أن يقدمه هذا المؤثر (وحين سار معهم، كانت الضفادع تودعه بنقيق يشتد جرسه كلما ابتعدت خطواته عن السواقي الصغيرة، كأنها تعزف أغنية الوداع)[21] فما يحمله هذا المقطع من دلالة تؤشر علاقة الألفة والانسجام بين الشخصية ومكونات الفضاء النصي عبر لحظة يحددها هاجس غامض بانقطاع ذلك الرابط، وهو ما يستدعي عزف لحن الوداع [22]بمعناه الواضح الذي لا يقبل التشظي. كان بإمكان المؤلف أن ينهي القصة عند هذه النقطة إلا انه عالج نهايتها برؤية سينمائية، ترصد عبر اللقطات الثلاث وصفاً للمكان، ومتابعة لحركة العناصر فيه، لتؤثث مناخاً للرعب، يمهد للقطة رابعة تستجوب فيها الشخصية، وتفيد ولو جزئياً من طاقة الحوار المسرحي في بناء النهاية وفق منطق الأحداث، الملخص في اللقطة الخامسة على أساس أيديولوجي يطرح الإدانة والمطالبة والشكوى بصيغ تقترب من الحكمة.




  يسعى القاص إسماعيل فهد إسماعيل في قصتيه (الأقفاص-1) و(اللغة المشتركة-2) من مجموعة ( الأقفاص  واللغة  المشتركة -1974 ) للانفتاح على السيناريو ، موظفاً عناصره وما تحققه بحركتها جمالياً داخل نسيج القصة، المثيرة للانتباه بتجزئتها التي لا مبرر لها فنياً . وهو ما يؤكده مسار الحدث المتتابع . ربما يمكننا القول أننا إزاء مشهدين لأن (الانتقال من مشهد إلى آخر يتم دون قفزات وبشيء من الاستمرارية بحيث يحافظ على مظهر التشابه مع جريان الأحداث الواقعية)[23] أو الاستمرار بالترقيم المتنامي للقطات، مع الاحتفاظ بتقسيم القصة، إذا كان ذلك ضرورياً ، لتحديد وتعيين نوعين من الحركة والتصور .  فاللقطة الأولى ترصد الفضاء النصي بلغة وصفية يغلب عليها الاقتصاد، محددة المكان المناسب لحركة الشخوص وما هو ضروري لتطوير فاعلية الصراع. فيما تحاول اللقطات التالية الدخول في التفاصيل المهمة لعناصر اللقطة، أو الوقوف على الجانب النفسي للشخصيات، وما تعانيه من البعد و الغربة والحاجة الجنسية في مجتمع مغلق، لا حلول منصفة تتضمنها قيمه وتقاليده الاجتماعية لتعزيز العلاقة بين الرجل والمرأة، مما يؤدي إلى (خلق مستوى من العزلة والانكفاء على الذات)[24]. وقد يلجأ القاص إلى تقطيع اللقطة، لتسمح له باختبار طاقتها على التوسع في متابعة الحدث، ومعرفة فاعلية عناصرها التكوينية في لملمة فعل السرد وإضاءة ما يمكن التعرف إليه عبر استخدام تقنية الاسترجاع التي يؤشرها القاص بلون كثيف للحرف الطباعي، وهي سمة غالبة في قصصه كلها. فيما تقوم القصة المضمنة (الحسون الذي أهدي للطفل)[25] بدور الحافز المؤثر لفعل المواجهة عند انفتاح مكوناتها في فضاء القصة الأصلية، وما يحدث من تفاعل ،  ينتج دلالة الرفض لنهاية (الحسون)  والتفكير بتغيير هذا المصير ( التحدي يبدأ يتنامى في صدرها. القفص محكم الإغلاق)[26] لا تجد نهاية اللقطة الثامنة إلا تتابعاً متصلاً في لقطات القسم الثاني، بحيث تخرج فيها من علاقة التجاور إلى الامتزاج، لتحقيق الأثر الكلي للنص، بالإضافة إلى ما يقدمه عنصر الصوت من معلومات، ليصبح (كشف مكان الحدث مناطاً بالجانب الصوتي)[27] الذي يأتي مشروخاً ليترافق والحالة النفسية للشخصية ( أواني تصطدم ببعضها في مكان ما من السكن. الصوت يأتيها مشروخاً عبر الممرات الضيقة)[28] فيتصاعد إحساس الشخصية بالقيد، الأمر الذي يجعلها تقدم على الخطوة التالية (مرحباً بقرار عجزت عن اتخاذه)[29] لكنها بخروجها تحثّ الشاب ابن صاحب البقالة أن يكسر القفص ويتبعها، لتكتشف ان في تحررهما لغة مشتركة.





  تمثل قصة (سيناريو فيلم صامت) من مجموعة (حدوة حصان- 1974) للقاصة بثينة الناصري انفتاحاً كلياً على السيناريو، تحاول فيه اختبار فاعلية وحدات السرد عند انتقالها من مجالها اللفظي ( إلى مجال تمارس فيه الآلة "العين السينمائية" وجوداً مؤثراً بغية تجسيم الأفعال اللفظية والارتفاع بوحدات الخطاب الدرامية)[30] مستثمرة إمكانات اللقطة ومقدرتها في صياغة الأحداث بوصفها (وحدة دالة تحييدية ومكثفة في خاصية حسية)[31] فما تمارسه من تقطيع للأحداث يجمعه المونتاج من خلال علاقة لا يحكمها التسلسل الواقعي، بل ما يفترضه الكاتب أو يتصوره، يمنح عناصر القصة تركيزاً موضوعياً في الرصد، تلتقط من خلاله الكاميرا (الراوي الشاهد) ما تجده مهماً، ليحتل مكانه المناسب في الحيز، لأنها بهذا التقريب تسهم بتجسيد الدلالة المطلوبة ( يملأ الشاشة دخان كثيف)[32] فسيميائية الإشارة وما تحمله من معنى، هو ما يجعل تكبيرها لاغياً لوجود آخر، قد يستهدف التوظيف الكلي لمكونات العنصر في السرد القصصي، التعبير عن الطاقة القصوى للدلالة، فتكرار اللقطة يطور فاعلية الصراع، ويعمل على تصعيد الحدث درامياً (لقطة قريبة لوجه صغير، يطل من الخيمة، ينظر إلى الكاميرا دهشاً، في الثالثة من عمره../ لقطة قريبة لوجه صغير يطل من الخيمة ينظر إلى الكاميرا بخطى متأرجحة، تتحرك شفتاه...)[33]





  وتنفرد القصة باستخدام وضع جديد للكاميرا (اللقطة من الأعلى)[34] لتضيف بزاوية نظرها قيمة جمالية للحدث، تجاور ما تحققه باقي اللقطات (لقطة من الجو للمخيم، لا حركة.. لا شيء.. عدا الدخان الذي بدأ يتبدد)[35] ويمكن أن تعبر عن بعد أيديولوجي محمل بدلالات واضحة، فيما يؤدي الصوت دوره في رؤية الحدث، حينما يعبر عن حالة حزن الطفل بفقدانه لأمه ( يبدو عليه الغضب ،فجأة يصرخ "ماما" تسيل دمعتان ويصيح بأعلى صوته"ماما")[36] هذا الصوت الذي لا جواب له، يمكن عدّه جوهر القصة، أو الغاية المتوخاة منها، إلا ان نهايتها توظف اللون بإحالاته المرجعية لخلق تكوين تشكيلي مقصود بمعناه (لقطة طويلة على الأبيض والأسود يغطيهما أحمر)[37].





  لا تختلف قصة عبد الرحمن مجيد الربيعي ( من مغامرات أحمد العيد في لياليه الحافلة -1974  ) من مجموعة ( ذاكرة المدينة -  1975)  من حيث استلهام عناصر السيناريو عما سبقها من نصوص إلا بكثرة المقاطع وتعدد عنواناتها، فالقصة لا تبني حدثاً، وإنما تسجل مواقف لشخصية (أحمد العيد) اعتماداً على الذاكرة، دون أن يشكل تأخير أو تقديم المقطع إرباكاً في السرد ( وها أنا أروي البعض منها اعتماداً على ذاكرتي وربما نسيت حكايات أكثر دعابة وأهمية)[38] لكن محاولة الإفادة من قابلية اللقطة على التحديد في بناء الموقف يتبدى عند القاص في ضبط انثيال الذاكرة، وما تتخطاه أو ما يقع في زاوية نظر أخرى يعمد إلى وضعه في ملاحظة أو هامش أو استدراك لإغناء تطور الشخصية، وبإمكانه الاستغناء عن عنونة تلك المقاطع باستخدام اللقطات حسب التسلسل، الذي لا يجد البحث ضرورة لتناميه، وربما تضيف عشوائية الترقيم بعداً آخر يترك دلالته في بناء النص. ويبدو ان القاص يركز على اللقطة بأشكالها المختلفة، وما يحققه توظيفها في السرد من خلق نص يتجاوز تتابعه الزمني، فهو يتلاعب بما يطرحه (بين ما يتغير وما هو ثابت داخل حدود اللقطة نفسها)[39] هذا الأسلوب في انتقاء واختيار حكايات الشخصية الرئيسة، يمنح القارئ الحرية الكافية للمساهمة في كتابة القصة.





  أما في قصة ( العميان-1975 ) يلجأ القاص إلى بنائها وفقاً لحركات ثلاث، تخضع هي الأخرى إلى التقطيع والعنونة بأسماء شخصيات القصة، وهي تتابع حياة أفراد عائلة مصابين بالعمى مثلما تضيء مصائرهم، في صراعهم من أجل البقاء والاستمرار. تؤسس الحركة الأولى بلقطة خارجية، تكشف عن فقر عناصر المشهد، ثم تنسحب إلى داخل الشخصية / المقطع لتجسيد عالمها الداخلي وما تعانيه في مواجهة غير متكافئة (يتحسس طريقه بصعوبة، ولكنه يعرفه جيداً، عيناه مفتوحتان لكن انفتاحهما لا يطل على عالم رحب، بل على صحراء وأبدية من اللارؤيا والحرمان)[40] إلا ان هذه القصة تختلف عن سابقتها بوجود حدث يتطور عبر المقاطع / الشخصيات وما يضيفه  كل  جزء  إلى الخط  القصصي  المتنامي  ، على  الرغم  من  غياب  زمن ليس باليسير في الفواصل  بين الحركات  ،  يتخذ  فيه مسار الأحداث والشخصيات منحى آخر يحقق لحركة السيناريو داخل النص القصصي فرصة لكشف المرئي من الشخصية ،  ومتابعة تطورها  بالأهم من حوادث حياتها (4-شامي: أصبح لاعباً معروفاً، تظهر صوره في الجرائد الرياضية وقد سافر إلى خارج العراق مع فريقه عدة مرات. سكن العاصمة بعد ذلك وتزوج من فتاة متعلمة وجميلة)[41] بحيث يبدو ترقيم الحركة الثالثة لمقاطعها التي تناولت مآل الشخصيات والمصير المرسوم لها بصورة مقتضبة وكأنه إجابة لأسئلة سبق للنص القصصي أن أطلقها عبر متابعته لحضور الشخصيات وإضاءته أفعالها.






*المقتطف مع هوامشه مقتبس من  أطروحة الماجستير للكاتب 


* قاص عراقي















































ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق